تطور خدمات الصحة النفسية في المملكة العربية السعودية بين الماضي والحاضر والمستقبل

0
1467

الجزء الأول منظور مقدمي الرعاية الصحية

 

تقرير من إعداد

 

الدكتورة هيفاء محمد صالح القحطاني

استشارية الطب النفسي والعلاج السلوكي

رئيس مشارك شعبة العلاج السلوكي في رابطة الطب النفسي العالمية

مؤسسة مجمع التجديد والتحفيز الطبي

الدمام – المملكة العربية السعودية

 

 

 

 

كما نتقدم بالشكر لكل من ساهم في إنجاح هذا التحقيق

من مقدمي الرعاية الصحية النفسية

 

 

 
 

 

 

 

 
ملخص

اتخذت المملكة العربية السعودية خطوات حثيثة نحو تطوير منظومة الصحة النفسية، من أبرزها:

  1. إقرار تدريس علم النفس في الجامعات.

  2. إرسال المبتعثين للتخصص في الطب النفسي.

  3. إستقدام خبراء من الخارج والإستفادة منهم داخليا.

  4. إطلاق برنامج الزمالة في الطب النفسي.

 
 
 

واستمرت جهود المملكة العربية السعودية بإقرار نظام للرعاية الصحية النفسية وتطويره، ووضعت الأبحاث المتعلقة بالصحة النفسية من بين أولويات تمويل الأبحاث الصحية والذي تم إنشاؤه حديثا، كما قامت المملكة بترخيص مراكز خاصة للصحة النفسية تعزيزا للمراكز والمستشفيات الحكومية وحرصت على توظيف وسائل الإعلام والاتصالات لزيادة التوعية بالصحة النفسية.

يسعي هذا التقرير للتعرف على مستوي تطور خدمات الصحة النفسية في المملكة العربية السعودية خلال العقدين الماضيين بالإضافة للتطلعات المستقبلية لمواكبة رؤية ٢٠٣٠، ويتكون من جزئين حيث يستعرض الأول آراء بعض من المتخصصين في طب وعلم النفس، ويستطلع الثاني آراء المستفيدين من خدمات الرعاية الصحية النفسية في القطاعين العام والخاص.

 
مقدمة – ما هي الصحة النفسية؟
 

قبل المرور بتفاصيل هذا التقرير من المهم أن نضع تعريفا شاملاً ومبسطا للصحة النفسية.

ولعل أبسط التعريفات وأكثرها شمولية هو هذا التعريف:

“حالة من العافية الجسدية والعاطفية والفكرية والإجتماعية تمكن الأفراد من تكريس قدراتهم الخاصة، والتكيف مع أنواع الإجهاد العادية، والعمل بتفان وفعالية للإسهام في مجتمعهم.”

 

وضع الصحة النفسية في المملكة العربية السعودية

 

بعد أن وضعنا تعريفاً مبسطاً حول مفهوم الصحة النفسية دعونا نقدم موجزاً سريعاً حول وضع الصحة النفسية في المملكة بالاستعانة ببعض الإحصاءات الرسمية. إذ أظهر المسح الوطني السعودي للصحة النفسية والذي صدر في العام ٢٠١٩م. بعد أن أجريت مقابلات مع ٤٠٠٤ من أفراد المجتمع السعودي إناثا وذكورا بين الخامسة عشرة والخامسة والستين من العمر.

أن:

 

– ٣٤% من السعوديين تنطبق عليهم معايير تشخيص اضطراب واحد على الأقل من بين الاضطرابات النفسية الستة عشر الشائعة التي شملها المسح.

– ٨٣% من السعوديين الذين شُخصوا بإضطرابات حادة في الصحة النفسية لا يسعون لتلقي أي نوع من العلاج.

– ٨,٥% من السعوديين الذين شُخصوا بإضطرابات حادة في الصحة النفسية يلتمسون العلاج من رجال الدين والمعالجين غير الطبيين.

– ٥/٢ من الشباب السعودي تنطبق عليهم معايير تشخيص أحد الاضطرابات الستة عشر على الأقل.

 

وحدد المسح الوطني اضطرابات الصحة النفسية الأكثر شيوعا في المملكة وكانت على النحو التالي:

– إضطراب قلق الانفصال.

– إضطراب نقص الانتباه/فرط الحركة.

– الإضطراب الإكتئابي الرئيسي.

– الرهاب الإجتماعي.

– إضطراب الوسواس القهري.

علما بأن المسح لم يتمكن من قياس سوي عدد محدود من

الاضطرابات النفسية ولم يشمل الأطفال تحت سن ١٥ أو المسنين

 

منظومة الرعاية الصحية النفسية

إلى اليوم تعتبر وزارة الصحة هي المقدم الرئيسي لخدمات الصحة النفسية في المملكة، حيث أنشأت الوزارة ١٩ مستشفى نفسي تحتوي على:

 

٢٥٢٠ سريرا لعلاج الإضطرابات النفسية المختلفة.

١١٧٧ سريرا لعلاج الإدمان .

إلى جانب ١٠٣٧ عيادة من عيادات الإرشاد في مراكز الرعاية الأولية، ٢١ مركزأً وعيادة لعلاج إضطرابات النمو، بالإضافة إلى ١٢٠ مركزاً وعيادة للطب النفسي في القطاع الخاص.

 

أما على مستوي الكوادر فيبلغ عدد الأطباء النفسيين في القطاعين ١٠٤٣ طبيبا نفسيا، إضافة إلى ما يزيد عن ٥ آلاف أخصائي نفسي وما يزيد عن ١٠آلاف أخصائي إجتماعي أغلبهم من الحاصلين على شهادة البكالوريوس.

 
تطور قطاع الصحة النفسية في المملكة

تعود بداية جهود تطور قطاع الطب النفسي في المملكة العربية السعودية إلى العام ١٩٥٢م، حينما تم افتتاح أول مستشفى للطب النفسي في مدينة الطائف، منذ تلك اللحظة تنامت اتجاهات معظم الراغبين في التخصص في مجال الصحة النفسية للدراسة في الخارج للحصول على الإختصاص حيث لم يكن من المتاح الحصول على تخصص علم النفس في المملكة حتى العام ١٩٧٠م، وشهد العقدين الأخيرين تطورات ملموسة في مسار منظومة الصحة النفسية في المملكة العربية السعودية. ولعل من أبرز محطات هذا التطور تتمثل في إقرار الزمالة السعودية للطب النفسي عام ١٩٩٧م من قبل الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وإصدار النسخة الأولي من الأطلس السعودي للصحة النفسية عام ٢٠٠٧م وهو وثيقة مهمة تعمل على وصف التطور التاريخي لوضع الصحة النفسية والإجتماعية في المملكة العربية السعودية، وتحدد مواطن القصور في نظام الصحة النفسية، وتقدم الإقتراحات لتطوير الخدمات النفسية، البحوث، البنية الإنشائية، ونظم المعلومات كما تم إجراء المسح الوطني للصحة النفسية عام ٢٠١٠م.

تلا ذلك مجموعة من الخطوات التطويرية كتأسيس أول برنامج زمالة للطب النفسي للأطفال عام ٢٠١١م، وثم إصدار قانون نظام الرعاية الصحية النفسية عام ٢٠١٤م، إلى جانب إنشاء المركز الوطني للصحة النفسية وهو مركز وطني يعمل على سد الفجوة في مجال الأبحاث العلمية الموجهة للصحة النفسية.

كما تم تأسيس الجمعية السعودية لعلم النفس المهني عام ٢٠١٩م والتي تسعي إلى أن تكون مرجعية علمية للمنتمين للتخصص وإلى النهوض بالمهنة في المملكة العربية السعودية كعلم وممارسة من خلال التدخلات المبنية على البراهين لكل من يحتاج إليها بأفضل معايير الجودة في الممارسة الصحية. وآخر تلك الخطوات، خطة لتجهيز جناح للصحة النفسية في ٤٥ مستشفى حكومي. كل تلك الخطوات كانت تهدف لتأسيس قاعدة متينة وعلمية لتدفع عجلة تطوير منظومة الصحة النفسية السعودية.

وتزامنت تطورات الصحة النفسية في المملكة مع تنامي نسبي في الوعي المجتمعي بمفاهيم الصحة النفسية. كحال دورة الوعي التي مرت بالصحة النفسية في مختلف دول العالم، فقد مرت منظومة الصحة النفسية في المملكة العربية السعودية بذات البدايات الصعبة والتحديات الكبيرة التي تتمثل في سيادة المفهوم التقليدي والمغلوط عن الصحة النفسية والتي تضعها في حيز العين والحسد والمس بالجن، أو تلك النظرة التي تصنف من يعاني من إضطرابات نفسية في خانة الجنون، وعلاجه عبر عزله في مصحات نفسية مشبعة بالوصمة. وكان لمساعي مختلف الجهات في الدولة والعاملين في قطاع الصحة النفسية الدور في توجيه الإعلام لتسليط الضوء وزيادة التوعية بالصحة النفسية وهو ما كان له الأثر الملحوظ في تحسين الوعي المجتمعي مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ٢٠عاماً.

 
 

يسعي هذا التقرير للتعرف على مستوي تطور خدمات الطب النفسي في المملكة العربية السعودية خلال العقدين الماضيين، بالإضافة للتطلعات المستقبلية لمواكبة رؤية ٢٠٣٠، ويتكون من جزئين حيث يستعرض الأول آراء بعض من المتخصصين في طب وعلم النفس ويستطلع الثاني آراء المستفيدين من خدمات الرعاية الصحية النفسية في القطاعين العام والخاص.

 

ويشمل هذا الجزء من التقرير سؤال المختصين عن المحاور التالية:

– تطور الخدمات وسهولة الوصول للرعاية النفسية.

– مستوي الوعي المجتمعي.

– نوعية الخدمات المتوفرة وجودتها.

– المعوقات التي تواجه الصحة النفسية وتطورها.

– التأهيل والتدريب.

– سد الفجوة بين عدد المحتاجين لخدمات الصحة النفسية وحجم المعروض.

– طبيعة العلاقة بين القطاع العام والخاص.

 
منظور مقدمي الرعاية الصحية النفسية
تطور الخدمات وسهولة الوصولة للرعاية

يقصد بسهولة الوصول للخدمات الصحية قدرة السكان بإختلاف مناطقهم على التمتع بالرعاية الصحية النفسية دون وجود عوائق تمنع هذا الحق، في المملكة العربية السعودية هناك تطور على مستوي سهولة الوصول للخدمات الصحية في المدن الكبيرة، لكن هذا الوضع يتقلص كلما خرجنا من هذا الحيز. كما أن الوصول وحده ليس هو العائق الوحيد بل منظومة الصحة، حيث يعاني المراجعين لمستشفيات الصحة النفسية والراغبين في العلاج السلوكي، أو العلاج بالكلام من عوائق تنظيمية تمنعهم من الحصول على هذه الخدمة بيسر وفي الوقت المناسب.

وفي هذا السياق أكد استشاري الطب النفسي، وقائد استراتيجية وزارة الصحة لمنظومة الصحة النفسية والإدمان والإضطرابات النمائية الدكتور ياسر الدباغ، على تطور خدمات الصحة النفسية، حيث باتت سهولة الوصول للرعاية الصحية النفسية أعلى بكثير من السابق وزاد عدد مقدمي الخدمات الصحية النفسية بشكل كبير، كما زاد عدد المراكز والمستشفيات، إذ وصلت لمعظم أنحاء المملكة، وبلغت ١٩ مستشفى صحة نفسية تابعة لوزارة الصحة، وخدمات أخرى تقدمها قطاعات الأمن والقطاع العسكري، وقطاع التعليم.

كما أكدت أخصائية علم النفس منى بخيت أن الوصول للرعاية النفسية في العقد الأخير أصبح أكثر سهولة مقارنة بما سبقه، ساعد على ذلك الزيادة في عدد العيادات الخاصة والحكومية التي توفر هذا النوع من الخدمات، بالرغم من ذلك لازال هنالك عجز في هذه الأماكن حتى وإن كانت مدن كبيرة.

من جانبه أثني استشاري الطب النفسي ومدير عام المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية الدكتور عبدالحميد الحبيب على تطور خدمات الصحة النفسية في العقدين الأخيرين كماً وكيفاً، وذلك من خلال زيادة عدد مستشفيات الصحة النفسية وافتتاح عدد من العيادات المرتبطة بالمستشفيات العامة.

كما أن هناك تحسناً ملحوظاً في الكوادر الوطنية المؤهلة في مجال الصحة النفسية والمتخصصين في التخصصات الدقيقة.

 

أما استشاري علم النفس العلاجي العصبي الدكتور أحمد عز الدين فذكر أنه خلال الفترة ٢٠٠٠ – ٢٠١٠م، كانت هناك محاولات حثيثة لتطوير منظومة الصحة النفسية من قبل الدولة وأيضاً من قبل الكيانات المهنية ذات العلاقة كجمعية الطب النفسى وتجمعات الأخصائيين النفسيين. كانت الخطوة البارزة في مساعي التطوير هذه إنشاء دور نظام الرعاية الصحية النفسية بقرار من الدولة بهدف المساهمة في وضع الصحة النفسية على خارطة التداول المجتمعي، مما ساهم في إزالة كم مقدر من الوصمة التي صاحبت موضوع الصحة النفسية مجتمعياً.

 
المعوقات التي تواجه الخدمات الصحية في المملكة
1. قصور في عدد الكوادر

وفقا للمسح الذي قامت به وزارة الصحة في العام ٢٠١٥م ، تبين أن هناك فجوة كبيرة بين العرض والطلب، حيث بلغت الحاجة للخدمات النفسية ٤ أضعاف المتوفر من الأطباء النفسيين. وبمقدار ٢,٦ ضعف من الأخصائيين النفسيين. على أن هذه الفجوة مرجحة للتضاعف بحلول العام ٢٠٣٠م إذا لم يصار إلى حلول جذرية واستراتيجية لعلاج هذه الفجوة، علماً بأن الإشكال الحقيقي ليس في عدد الأخصائيين والأطباء وإنما في تأهيلهم وتحسين قدرتهم على تقديم الخدمات المطلوبة.

في هذا السياق يري الدكتور أحمد عز الدين أن العوائق الأساسية التي تواجه خدمات الصحة النفسية تتمثل في غياب التخصصات الدقيقة في الممارسة اليومية للطب النفسي.

حيث تجد الكثير من الأطباء النفسيين يمارسون كأطباء نفسيين عامين، وفي بعض الحالات قد تجد منهم من يوفر الخدمة لكل المرضي كباراً وصغاراً ومراهقين مما قد يقلل من جودة الخدمة المقدمة.

وتابع الدكتور عز الدين، مع الزيادة المضطردة في أعداد الأطباء النفسيين يظل الأمل في الإتجاه نحو ممارسة تخصصية في أفرع الطب النفسي السريري العديدة.

وأضاف بالنسبة لممارسة علم النفس العلاجي

تكمن العوائق الأساسية في غياب المناهج الملائمة على المستوي الجامعي وعلى مستوي التدريب العلاجي.

أما الدكتور عبدالحميد الحبيب فقد أشار إلى أن أبرز العوائق التي تواجه الصحة النفسية تتمثل في استمرار النمط التقليدي في تقديم الخدمات وهو النمط المعتمد على المستشفيات النفسية بدلاً من الخدمات المجتمعية، ويرتكز على النموذج الطبي حيث يلعب الأطباء غالباً الأدوار بسبب غياب ونقص التأهيل للأخصائيين النفسيين في التخصصات الأخرى واستمرار الإعتماد على النموذج البيولوجي الدوائي.

إضافة إلى المعوقات التي سبق وأن أشار إليها، يضيف الدكتور ياسر الدباغ معوقاً آخر يتعلق بالتركيبة السكانية التي تجعل من الصعب أن نفي باحتياجات كثيراً من السكان، حيث أن نسبة كبيرة من التركيبة السكانية تقع في فئة الأطفال والطلبة وبالتالي فإن نسبة الأطباء المواطنين المتخصصين بشكل عام وفي الطب النفسي بشكل خاص لازالت أقل من حاجة السكان.

من جانبه دعا استشاري علم النفس الإكلينيكي الدكتور محمود أبورحاب إلى وجود خطة متكاملة لإنشاء مستشفى أو مركز متكامل للصحة النفسية في كل مدينة من مدن المملكة العربية السعودية في سبيل سد الفجوة بين العرض والطلب على الرعاية النفسية.

 
2. التأهيل والتدريب

يعتبر المجتمع السعودي من المجتمعات الفتية متسارعة النمو، وفي ظل ما يشهده المجتمع السعودي من زيادة مضطردة لعدد السكان تزداد الحاجة لكوادر مؤهلة في الصحة النفسية.

حول هذه الموضوع بين الدكتور ياسر الدباغ وهو قائد فريق إعداد الاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية

يعد عدد الحاصلين على درجة الماجستير والدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي قليلاً جداً حيث لم يتجاوز عددهم ١٧٥ خريجاً في بداية ٢٠١٩.

هذا ووصف الدكتور الدباغ التدريب على العلاج النفسي في الطب النفسي وعلم النفس بالضعيف، ويشوبه القصور لكنه ذاهب إلى التحسن حيث زادت برامج الدراسات العليا في مجال علم النفس الإكلينيكي كما تم إدراج التدريب علي العلاج النفسي ضمن برنامج الزمالة السعودية.

أما استشاري علم النفس العلاجي العصبي الدكتور أحمد عز الدين فقال إن تطوراً مهماً قد بدأ مع بداية الألفية في صياغة الهياكل التدريبية المتخصصة وممارسة مهامها التدريبية والإشرافية مع تأسيس الهيئة السعودية للتخصصات الصحية.

وأضافـ بالمقابل فإن مجال علم النفس العلاجي ككيان وممارسة مهنية ظل متعثراً وقائما على إجتهادات فردية ودون هيكل جامع يضبطها وينظمها كقطاع لا تكتمل منظومة الصحة النفسية بدونها.

أما استشاري الطب النفسي الدكتور عبدالله السبيعي فقد عاد بالذاكرة إلى العام ١٩٩٣م ، حيث كانت جامعة الملك سعود/ قسم الطب النفسي بكلية الطب، تعطي دبلوم في الطب النفسي مدته سنتين، وتخرج منها عدد من الأطباء. بعد ذلك وبمبادرة من الدكتور عبدالرزاق الحمد -رحمه الله- قمنا بتطوير البرنامج ليصبح زمالة خاصة بجامعة الملك سعود مدتها ٤ سنوات واستمرت حتى عام ١٩٩٧م تقريباً.

وتابع

أنشئت الهيئة السعودية للتخصصات الصحية عام ١٩٩٣م تقريبا، ومع بدايتها كنت على علم بأن دورها سيكون مشابه لدور الكلية الملكية للأطباء والجراحين في كندا، وكنت متيقن أنه لكي تكون زمالة الطب النفسي قوية وذات كفاءة فلابد أن نكون تحت مظلتها.

3. شح الأبحاث العلمية

ينتقل الدكتور ياسر الدباغ إلى محور آخر وهو محور الأبحاث العلمية في مجال الصحة النفسية في المملكة العربية السعودية، والتي يرى بأنها من بين الفجوات التي تضعف تطور خدمات الصحة النفسية في المملكة العربية السعودية. مع ندرة في الدراسات المسحية الضخمة التي يمكننا من خلالها تقدير إنتشار الإضطرابات المختلفة لكنه عاد إلى تفاؤله حينما أشار إلى أن السنوات الماضية شهدت تطوراً متسارعاً في إنتاج الأبحاث العلمية في الصحة النفسية، ومن أهمها الإنجاز الحديث لعام ٢٠٢١ وهو إنشاء المركز الوطني للبحوث الصحية والذي سيعني بتمويل الأبحاث في كل المجالات الصحية. ومن أوائل ما تم إنجازه في المركز هو تحديد الأولويات البحثية للمملكة، وقد تم بحمد الله إدراج الاكتئاب واضطرابات القلق من بينها لضخامة العبء على القطاع الصحي والاقتصاد القومي لهذه الاضطرابات ولكونها من بين أكثر الاضطرابات المتسببة للإعاقة عالمياً ومحلياً.

 
بين الوعي المجتمعي والوصمة

بالرغم من مرور العديد من السنوات على مسيرة العلاج النفسي في المملكة العربية السعودية، إلا أن المجتمع مايزال يعاني من المفاهيم الخاطئة التي تضع الإضطرابات النفسية في حيز الجنون أحياناً، وفي حيز المس بالجان في أحيان أخرى، علاوة علي إطلاق أحكام جزافية على المصابين بالإضطرابات النفسية على نحو يصفهم بضعف الإيمان على سبيل المثال، وهو ما يعزز الوصمة. بينما يدفعننا ديننا الإسلامي الحنيف لأن ننظر إلى من يعاني من إضطرابات نفسية على انه مبتلي، وقد علمنا ديننا الإسلامي أن الله يبتلي عباده ليطهرهم ويرحمهم. حول موضوع الوصمة، رأى الدكتور أحمد عزالدين أن الوعي المجتمعي بأهمية ودور الصحة النفسية في استقرار الأفراد والأسر قد شهد تطوراً كمياً كبيراً لوحظ في السنوات العشر الأخيرة، فزاد الإقبال على طلب الإستشارات والرعاية النفسية بشكل ملحوظ، وواكب ذلك تناول مسائل تتعلق بالصحة النفسية في الندوات ووسائل الإعلام المسموع والمقروء والمشاهد بدون مستويات الحرج السابقة. وهو ما أكدته الأخصائية النفسية منى بخيت، والتي أشارت إلى أن زيادة الوعي المجتمعي في العقد الأخير ملحوظ. وتابعت قائلة

يمكننا أن نرى ذلك في عدد المراجعين للعيادات النفسية خاصة كانت أو حكومية، وفي استخدام الاسم الحقيقي عند فتح الملف وعدم التردد في استخدام التقارير النفسية كمستند مطلوب من بعض الجهات.

ليس هذا وحسب بل أن الوعي ماثل في فهم ووعي المراجع نفسه لماهية مشكلته وخروج العديد منهم من منطقة الإنكار وتقبل المشكلة والبحث عن علاج لها.

ومع كل ذلك في رأيي لم نصل بعد إلى الوعي التام المطلوب فمازال عند الكثيرين المشكلة النفسية او المرض النفسي وصمة.

 
 
الاضطرابات النمائية والإدمان

تعاني الكثير من الأسر من قصور في رعاية ذويهم من المصابيين بالأمراض النمائية مما يضع الأسرة تحت ضغط نفسي ومادي كبيرين.

هذا الأمر أكده الدكتور ياسر الدباغ وقال

هناك تقدم في برامج الرعاية النهارية خاصة بالنسبة للأطفال ذو الاحتياجات الخاصة وذوي الاضطرابات النمائية لكن هناك مدي واسع بالنسبة لجودة الرعاية المقدمة من الجيد جداً إلى السيئ جداً

هناك حاجة لتحديد سقف أدني للجودة وهناك عمل على ذلك، وهناك حاجة لزيادة عدد ساعات الدعم فأربع ساعات في اليوم للأسر العاملة تعد عائقاً.

أما فيما يتعلق بمجال الإدمان فبين الدكتور الدباغ أن هناك ثقافة تجعل من الإدمان موصوماً بطريقة سيئة جداً لربطه بالجانب الأمنى والإجرام وهو الأمر الذي يحتاج إلى معالجة ذهنية وقانونية، تتعاطي مع الموضوع من زاوية مرضية بدل تغليظ العقوبات الجنائية.

 
دور القطاع الخاص بين كفاءة الخدمة والاستثمار الشجاع

قليلاً من خدمات القطاع الخاص تتسم بالجودة ويركز أغلبها على خدمات الرعاية الخارجية والزيارات القصيرة، هذا ما أكده الدكتور عبدالحميد الحبيب. ورأى أن القطاع الخاص لايزال يبحث عن دور وثقة المستفيد. وعزى الدكتور الحبيب ضعف استثمار القطاع الخاص في الصحة النفسية إلى الوصمة التي مازالت مؤثرة على إتجاه المجتمع نحو الإهتمام بالصحة النفسية، وهو ما يؤدي إلى خوف القطاع الخاص من الاستثمار في قطاع غير مستقر.

من جانبه يرى الدكتور ياسر الدباغ أن هناك مجالات واسعة لإستثمار القطاع الخاص في الصحة النفسية لكن دوره لغاية الآن لايزال محدوداً. مبيناً أن هناك قطاعات لا تتطلب تكلفة لوجستية كبيرة وتعد فرص كبيرة للاستثمار، ومن أمثلة هذه البرامج التي يمكن أن يستثمر فيها القطاع الخاص: بيوت منتصف الطريق للإدمان، والإضطرابات المزمنة. وتابع

كثير من هذه البرامج من الممكن أن تشغل من قبل القطاع الخاص وتكون مدعومة حكومياً عبر أكثر من برنامج ومنها برنامج التأمين الصحي الوطنى.

 
استشراف المستقبل

في العام ٢٠١٦م أعلنت المملكة العربية السعودية عن رؤيتها ٢٠٣٠ وهي رؤية تحظي بدعم ورعاية خادم الحرمين الشريفين حفظه الله أطلقها سمو ولي العهد لمستقبل هذا الوطن العظيم. تسعي الرؤية في محورها الأول لبلوغ مجتمع حيوي يعيش أفراده في بيئة إيجابية وجاذبة، وتتوافر فيها مقومات جودة الحياة للمواطنين والمقيمين، وتحقق فيها رعاية صحية واجتماعية ممكنة.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف تعمل الرؤية على تحسين الخدمات الصحية بشقيها الوقائي والعلاجي، وتوسيع قاعدة المستفيدين من نظام التأمين الصحي، وتدريب أطبائنا لرفع قدرتهم على مواجهة وعلاج الأمراض.

على ضوء رؤية السعودية ٢٠٣٠ أعدت وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية استراتيجية وطنية للصحة النفسية، والإدمان، والإضطرابات النمائية، تهدف إلى رفع مستوي الرفاهة النفسية، وتوفير خدمات للصحة النفسية الإدمان والإضطرابات النمائية عالية الجودة، يسهل الوصول إليها لمن هم بحاجتها أينما كانوا في المملكة ودعم أسرهم وذويهم.

من هذا المنطلق تسعي الاستراتيجية السعودية للصحة النفسية إلى توفير الخدمات الناقصة بشمولها وتنوعها، وتخفيض الوصمة المرتبطة بالاضطرابات النفسية، وتحسين جودة الخدمات، وكفالة الوصول للخدمات في كافة أرجاء المملكة.

 
توصيات ختامية

في ظل ما سبق نستطيع أن نوجز أن الرعاية الصحية في المملكة العربية السعودية قادرة على التطور والاقتراب من سد الفجوة بين العرض والطلب، وتحسين جودة الخدمات وسهولة الوصول إليها، إذا ما توفرت لها بعض العوامل ومنها

  1. توفير خدمات الصحة النفسية الشاملة في المستشفيات العامة حكومية كانت أو خاصة بما فيها التنويم، تذليل العوائق من تحويل وقوائم إنتظار طويلة، وإشراك التأمين الطبي لتغطية العلاج النفسي الغير دوائي.

  2. الإستثمار في التركيز على مبدأ الوقاية خير من العلاج للمساهمة في تسريع سد الفجوة بين العرض والطلب وتحسين جودة الحياة، وذلك من خلال إنشاء مراكز رعاية نفسية مجتمعية في مختلف المناطق، تعمل على الوقاية وتوجيه المجتمع على طرق حياة سليمة ترفع من كفاءة صحتهم النفسية. وإضافة البرامج الوقائية في مراكز الرعاية الصحية الأولية للنساء والحوامل والأطفال.

  3. الاستفادة من قدرات آلاف الخريجين من تخصص الخدمة الإجتماعية، وعلم النفس الذين أغلبهم إما بدون عمل أو يعمل في مجالات لا تتعلق بتخصصه. حيث يمكن تأهيل هؤلاء على برامج للوقاية النفسية عبر الإرشاد الاجتماعي، في وقت أسرع وبتكلفة أقل، مقارنة بتأهيل المعالجين النفسيين الذي يتطلب وقتاً وكلفة أكبر.

  4. إدماج الجمعيات الأهلية التطوعية في برامج ترابط اجتماعي ودعم نفسي.

  5. تخصيص دعم للبحث العلمي لدراسة تأثير الجوانب الاجتماعية والأسرية والمهنية والصحية على استقرار الصحة النفسية ومن ثم توفير التدخلات الموائمة.

 
 
وفي الختام نسأل الله أن يوفقنا بتظافر جميع الجهود إلى تحقيق الرعاية الصحية النفسية لكافة أفراد المجتمع، بما يحقق أهداف المملكة العربية السعودية في بلوغ مجتمع حيوي يعيش أفراده في بيئة إيجابية وجاذبة، وتتوافر فيها مقومات جودة الحياة للمواطنين والمقيمين، وتحقق فيها رعاية صحية واجتماعية ممكََنة.
 
المصادر

– رؤية المملكة العربية السعودية ٢٠٣٠.

– استراتيجية وزارة الصحة للصحة النفسية، الإدمان، والإعاقات النمائية.

– المسح الوطني السعودي للصحة النفسية، مركز الملك سلمان لأبحاث الإعلاقة ٢٠١٩.

– دراسة تاريخ وسياق العلاج النفسي في المملكة العربية السعودية، القحطاني، بريك، الدباغ، مجلة العلاج النفسي المعاصر ٢٠١٦.

– الأطلس الأول للصحة النفسية والاجتماعية في المملكة العربية السعودية ٢٠٠٧ – ٢٠٠٨.

– إحصائيات الهيئة السعودية للتخصصات الصحية ٢٠٢٠.

– منشورات مجمع التجديد والتحفيز الطبي ٢٠١٩ – ٢٠٢٠.

 

ترقبونا في الجزء الثاني

منظور متلقي الرعاية الصحية

 

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا